عندما اندلعت الثورة السورية الكبرى، بقيادة عطوفة سلطان باشا الأطرش عام 1925، تدفق الحماس الوطني في العالم العربي، وانطلقت حناجر كبار الشعراء العرب، تلهج بالمديح والتشجيع والتمجيد، بقائد الثورة ورجالاتها وإنجازاتها. وكان في مقدمة هؤلاء أمير الشعراء أحمد شوقي، والشاعر القروي، ومعروف الرصافي، ومارون عبود وغيرهم، كما أن الشعراء المهجريين، بعثوا من وراء البحار، أجمل القصائد، وقاموا بالدعوة لمؤازرة الثوار وتشجيعهم، وتقديم كل دعم ممكن لهم.
وفي هذا الجو المشحون بالحماسة والفخر والاعتزاز بالثوار، الذين هبوا للدفاع عن الأرض والوطن والأهل، من تعسف الحكام العسكريين الفرنسيين الفظ، وقفت الصحف العربية، موقفا مشرفا، فأخذت تتنافس في كتابة التقارير الوافية عن الثوار, وعن جبل الدروز، وعن الطائفة الدرزية، وعن سلطان الأطرش.
وفي مدينة القاهرة، ازدهرت الصالونات الأدبية، وبرزت حركة شعر وتأليف وصحافة عارمة، وعجت بالكتاب والأدباء المحليين واللبنانيين، الذين لجأوا إليها من جور الانتداب الفرنسي، ولاقوا فيها متسعا فكريا كبيرا، ومتنفسا لبث آرائهم وأفكارهم. في القاهرة، عاصمة الفكر والأدب آنذاك، كانت تتألق الأديبة مي زيادة، فاتحة صالونا أدبيا في بيتها، وهي تنشر مقالاتها في مجلات العالم العربي وصحفه، وتستقطب اهتمام الكتاب والشعراء، وعلى رأسهم جبران خليل جبران.
الكاتبة مي زيادة، فلسطينية الأصل، وُلدت في مدينة الناصرة في الجليل، عام 1886 من أب لبناني وأم فلسطينية. ولمّا بلغت السادسة من عمرها، بدأت دراستها الابتدائية في مدرسة الراهبات اليوسفيات في الناصرة، حتى بلغت الثالثة عشر. وقد فضّل أبوها أن يرسلها للدراسة الإعدادية والثانوية في لبنان، فتعلمت في مدرسة الراهبات في عين طورة، لمدة أربع سنوات، وانتقلت بعدها إلى مدرسة الراهبات اللاعازاريات في بيروت. وعندما بلغت الثانية والعشرين من عمرها، رحلت مع والديها إلى مصر، واستقرت العائلة في مدينة القاهرة عام 1908. وكان والدها محرراً لمجلة "المحروسة". وقد برزت في مي مواهب أدبية منذ صغرها، وكانت تكتب مواد الإنشاء وكذلك محاولات أدبية مختلفة، أعجبت مدرّسيها والمحيطين بها. وفي عام 1911 أصدرت مجموعة شعرية باللغة الفرنسية، بعنوان "أزاهير حلم" ووقعت بإسم مستعار هو "إيزيس كوبيا". وفي القاهرة اندمجت في الجو الأدبي المنعش، الذي ساد في ذلك الوقت، وشجّعها معارفها على الكتابة باللغة العربية, فأخذت تنشر مقالات في الصحف والمجلات المختلفة، ونشرت بعض الكتب بالفرنسية والعربية، وأنشأت صالونا أدبيا، كان ينعقد أسبوعيا، وكان يشترك فيه كبار الكُتاب المصريين والعرب. وقد بدأت بمراسلة جبران خليل جبران، منذ عام 1912 لكنهما لم يلتقيا. وقد قامت بزيارة بعض الدول الأوروبية، واشتركت في نشاطات أدبية مختلفة هناك.
ولمّا قامت الثورة السورية الكبرى, توجّهت مي زيادة بالنداء التالي, من على صفحات الجرائد, إلى الزعيم سلطان باشا الأطرش, ودروز الجبل جميعاً:
"إخواني
أنست لدى مروري بدمشق، منذ ثلاثة أعوام، بلقاء كبير من كبرائكم، فدعاني إلى زيارة جبلكم، حيث أكون بين أهل وإخوان. ولما كانت الفرصة ممتنعة علي, رغم رغبتي في انتهازها، أجبت أن تلك الدعوة في تقديري، تستمر موجّهة إليّ، وذلك حتى يتيسّر لي أن ألبيها، فأقصد إلى حماكم، وأرغد بما هو مأثور عنكم، من الفضل والكرم،
وها أنا بي اليوم مُقبلة عليكم، وإن لم يكن بالجسم، فبالفكر والروح أسير إليكم، مسوقة بالشعور معكم، آسفة على كل قطرة تراق من دمائكم، متفجّعة بكل ما ينزل بدياركم من الرزايا، وأول ما ينطق به لساني، هو التمني أن تكفّوا عن القتال. ألا حبّذا التهادن والتفاهم في هدوء، ألا ادّخروا قواكم فنحن بها ضانّون، احقنوا دماءكم، فهي غالية علينا، لأنها تيار الأريحية والحياة.
وبعد ، فإني أخاطبكم قوية برعايتكم للضيف، فتحققون له كل رغبة، بل قوية بما هو أعظم من ذلك. قوية بما في طلبي من الشرف والواجب، وبما فيكم من نخوة ورجولة.
وإلى البطل سلطان باشا الأطرش، وأعوانه الشجعان، أوجّه كلامي: ألا أذكروا تقاليد توارثتموها، وعادات درجتم عليها في صيانة الأعراض، كونوا أنتم أيها البُسلاء، كما كنتم دائما، حماة النساء والبنات، ولا توقعوا العادية بجيرانكم وإخوانكم ولا تجوروا على الأبرياء.
ولأن أنا استنجدتكم، وأنتم في تجالد وتطاعن، تحدّق بكم المخاطر والنيران، فاذكروا ما أنا الساعة ذاكرة، من أن همم الرجال، إنما تُمتحن في الشدائد، وأن اصدق ما توزن به أقدارهم، إنما هو ما يبدو منهم، عند البلايا والمحن.
أطلب منكم ألجري على عادتكم القومية، من صون النساء في وسطكم، الشرقيات والغربيات منهن على السواء. أطلب مسالمة لجميع المقيمين في جواركم، والذين قد تنزلون بينهم، بداعي إجراءاتكم الحربية. وأطلب نشر هذه الروح الشريف، بين جميع رجالكم، ورجال القبائل والعشائر، والجماعات الموالية لكم.
إخواني!
أشكركم على ما يهزّني من فخر وأنا أخاطبكم بهذا السرور. أشكركم على شمم فيكم، يمدني بالشجاعة لأخاطبكم، وبالفخر لأثق أنكم ملبّون. أنتم الذين لا تخيفكم المدافع والشظايا، إنما تمتثلون لفتاة تخاطبكم، باسم الشرف والعدل.
لقد نظّمت جمعية الأمم في الغرب، دائرة من دوائرها، لحماية النساء والبنات، فاثبتوا،أنتم أنّكم تغارون على المرأة في دياركم، أيًا كانت الجنسية منها والعقيدة، أثبتوا للعالم أنكم بحق، أبناء هذا الشرق، شرق الرسل والأنبياء والأبطال، أثبتوا أنكم "رجال السويداء"، وأنكم أهل نخوة، كما أنتم إخوان شجاعة، واعتزّوا بتحقيق مطلبي، لأن هم الرجال، الذي يمتثلون للصوت الضعيف، وهو يذكّرهم بالشرف والحق والواجب، وأنتم الرجال الرجال...
مي
وكان لهذا النداء, صدى كبير في حينه, وكان له تأثير ووقع في نفوس المحاربين والثوّار, مع أنهم لم يكونوا بحاجة لنداءات مي, لكي يحافظوا على أعراض النساء, فتاريخ المحاربين الدروز, منذ ألف سنة وحتى اليوم, يشهد أنهم بعكس كل الجيوش في العالم, يستميتون في الدفاع عن أعراض نساء أعدائهم. لقد مرت الثورة السورية الكبرى، ومرت قبلها وبعدها عشرات الحروب والمعارك التي اشتهر بها مقاتلون دروز. وفي كل هذه المعارك والثورات والحروب لم يحصل أن اعتدى أحد على إمرأة أو مسكين أو عاجز، وما ذكرته الكاتبة مي هو من باب الإحتياط والإنتباه فقط.
وجدير بالذكر, أن عددا من الكُتاب والشعراء الدروز من سوريا ولبنان, كانوا يترددون على القاهرة في تلك السنوات, ويجتمعون بمي زيادة وضيوفها في صالونها الأدبي. وقد قامت مي بنشر عدد كبير من المقالات والروايات, وكانت تُعتبر من أشهر الكتاب العرب في النصف الأول من القرن العشرين. توفيت بالقاهرة عام 1941
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق