2 أغسطس 2016

فلسفة الجمال في الفكر الانســــــــــــــــــــاني // بقلم وهيبة سكر

مَا إن يتأمَّل الإنسان إشراقة الشمس، حتَّى يدرك معنى الجمال الموسوم في لوحات النَّفس، بألوان حيويَّة متدفِّقة، الجمال ينبلج مِن كوَّة النُّور والضِّياء؛ لتُحيل الحياة إلى ظلِّ لحظات يتَّحد فيها القلب مع القلب، فيستحيل إلى فيض مِن معانٍ متلألئة.

وإذا كانت الرِّياضة تغذِّي الجسم، والعبادة تقوِّي الرُّوح، والعلم ينمِّي العقل، فإنَّ الجمال يُحيي الوجدان، ويَسمو بالإنسان إلى أرقى المراتب.

والجمال، ينقسم إلى جمال روحي، وآخر مادِّي، فالجمال الرُّوحي راحة وسكينة؛ حيث تكون النَّفس كالسَّماء الزَّرقاء، وقد انقشعت عنها سحائب القلق والحيرة، وهذا الإحساس الجميل، يعبِّر عن خلاص الإنسان مِن مؤثِّرات الحياة السَّلبيَّة، ويُنقِّيه مِن الأحقاد، فلا يفعل إلا ما يُمليه عليه ضميره، فهو صاحب خُلُق جميل، الجمال إذن "مقدرة على مقاومة النَّفس الَّتي تأمُر بالقبح، فهو يقترن بالفضيلة وصدْق المشاعر".

أمَّا الجمال المادِّي، فهو منحوت على صفحات الطَّبيعة وسطورها، يُعلن عن نفسه دون مشقَّة أو أقنعة زائفة،يعبِّر عن ذاته بذاته.

وإذا كان الإنسان خليفةً في الأرض في صورة تقويميَّة، فإنَّه مِن مُنطلق الواقعيَّة، أن يَحرص على جمال الرُّوح والعقل والوجدان.

والأحكام الرُّوحيَّة في مجملها تستهدف تغيير مفاسد الأخلاق إلى محاسنها، وهذا هو محور فلسفة التَّشريع، وربُّنا - عزَّ وجلَّ - ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾ [السجدة: 7] سخَّر لنا ما سخَّر، في أنفسنا وفي أرضنا وفي سمائنا، وأذِن لنا في الجمع والتَّوفيق بين الانتفاع والاستمتاع بما في الطَّبيعة؛ يقول الله - عزَّ وَجلَّ - : ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ *وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 5 - 8]، ويقول - عزَّ وَجلَّ - : ﴿ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ﴾ [النمل: 60]، بل لقد جاء التَّكليف بأن ننظر ونتأمَّل في مناظر الجمال ويانع الثِّمار: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴾ [ق: 6]، ولنتأمَّل قول الله - عزَّ وَجلَّ -: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 -20]، إنَّه نظرٌ وتفكُّر يجمع بين الإيمان والفائدة، وبين الجمال والابتهاج؛ بل لقد أُمر بنو آدم باتِّخاذ زينتهم أمرًا مباشرًا، ولا سيِّما في مواطن العبادة؛ ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: 31].

جمالُ التَّعبير:
وجمال التَّعبير هو أوسع أنواع الفنون وأكثرها أثرًا في حياة النَّاس وتعاملاتهم: خطابًا، وأسلوبًا، وأمرًا، ونهيًا، ودعوة، وتوجيهًا، وتعليمًا، وتربية، وهذا تنبيه وتوجيه لأهل العِلم والتَّربية والتَّثقيف؛ لكي يقصدوا إلى الجاذبيَّة في الأسلوب، والجمال في التَّعبير: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].

فحياة النَّاس جُبلت على حبِّ الرِّفق وطلاقة الوجه، وفُطرت على الخُلق العالي وجمال اللَّفظ.

إنَّ المعلِّم والمُوجـِّه، والمرشِد والنَّاصح، والكاتب والمثقَّف، وغيرهم وغيرهم، كلُّ هؤلاء ينبغي أن يكونوا أهلاً للقول الجميل، والصَّبر الجميل، والصَّفح الجميل، والهجر الجميل.

وهذا الجمال الجميل، لا يمكن أن يكون فوق الحقِّ، فلا يكون الجمال في الكذِب، ولا يكون الفنُّ في الفسوق، ولا يجوز أن يُستساغ بجمال التَّعبير اختلاق الأباطيل مِن القول والتَّزوير. وعندما يكون الجمال وسيلة لهدم الحقِّ ينبغي إيقافه، فالذَّريعة إلى الممنوع ممنوعة.

ذلكم هو الجمال، وتلكم هي الزِّينـة، وذلكم هو الفنُّ والإبداع في ظاهره وباطنه.

ومِن الحماقة أن يكون بعض النَّاس حَسَن الهندام، حريصًا على جمال الصُّورة، بينما هو في حديثه وسلوكه قبيح العبـارة، دميم الذَّوق، سليط اللِّسان، غليظ التَّعامـل؛ ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32 - 33]، وتذوُّق الجمال يرتبط بالإطار الذي يوجد فيه الإنسان، وقد يوجد الجمال في "صخرة، أو شجرة، أو نَهر"، وقد يكون الجمال إبداعًا منفردًا ممَّا له أثر على التقاء الفكرة بالحسِّ، وقد يكون الجمال مُبتكَرًا بلغة تَحمِل الأثر الجميل، كقصيدة أو رواية أو نثر أو نصٍّ مسرحي.

ولكي يبقى الشَّيء جميلاً؛ لا بدَّ أن يكون سالِمًا مِن النَّقائص، ولا بدَّ أن يكون مُتناسِقًا مُنتظمًا مُنضبطًا.

وجمال القاضي بعدله وإنصافه، وجمال الحاكم باهتمامه بشؤون رعيَّته، وسهره لأمنهم وراحتهم، وجمـال الغنيِّ بصدقته وإنفاقه، وجمال الفقير بكدِّه وعمله.

ولقد خاطبنا الخالق بالجمال، وأمرنا أن نرحل إليه وإلى منازله العليا، ونسير إليها سيرًا لا ينقطع، حتَّى يدركنا اليقين، ولا ينبغي للإنسان الكيِّس أن تعميه أغاليط المبتدعين عن محاسن الدِّين.

تلازمٌ مَع الحقّ:
والجمال عادة يتلازم مع الحقِّ والخير في مواءمة وتناسق وانسجام، والخالق هو الحقُّ الأعلى الَّذي لا يقـارب أحقيَّته حق، فهو الأوَّل والآخـر والظَّاهر والباطن، وهو بكلِّ شيء عليم.

والرُّسل الَّذين أكرمَنا الله بهم، كانوا صادقين أمناء، لا تأخذهم في الله لومة لائم، والكتب الَّتي أُنزلت عليهم ذِروة سامِقة مِن جمال.

وبما أنَّ القيَم الثَّلاث: الحق والخير والجمال، مُلتقية في الإله المعبود، وفي الرُّسل، وفي الكتب المنزَّلة؛ فإنَّ أحسنَ الأحوال أن تكون هذه القيم مُتداخِلة في حياة البشر.

والدَّعوة إلى الخير لا تكون إلا على الحق، ولا تقترن إلا بالحسن والجمال، والدَّعوة لا تكون إلا بالكلام الجمـيل الَّذي تأنَس به المسامع، وتطمئنُّ إليه القلوب؛ ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83].

الجمال - إذن - قرين الحقِّ والخير، وونحن نرى أنَّ مهمَّة البلاغة: الكشف عن الحق، ولا توجد البلاغة إلا حيث يوجَد الجمال، وما خلا مِن الجمال فإطلاق البلاغة عليه مُحال.

النص المعجز:
والنَّص القرآنـيُّ هو أحد موضوعات الجمال، يدعو الإنسان إلى التَّفكُّر؛ ﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [الحجر: 16].

والمعجزة القرآنيـَّة وضعتنا أمام وعي جماليٍّ جديد، نجد تجلِّياته في الفكر واللُّغة والسُّلوك والفنّ، ينطلق هذا الوعي مِن خالق الجمال البديع الَّذي ينبثق جمال الوجود كله مِن آثار جماله، فللّه - عزَّ وجلَّ - جمال الذَّات، وجمـال الصِّفات، وجمال الأسماء والأفعال.

ومِن كمال محبَّة الله: محبَّة الجمال والسَّعي إلى إدراكه؛ بل إنَّ منتهى جزاء الآخرة عند المؤمن رؤية وجه الله - عز وجل - الَّذي يفيض على وجوه النَّاظرين إليه نَضرة وجمالاً؛ ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة:22 - 23].

وإلى جانب معجزة جماليَّته، فإنَّ القرآن الكريم - في الوقت ذاته - مُعجزة عقليَّة، مِن حيث عمْق بيانه، وروعة أسلوبه.

والحديث النَّبويُّ امتاز بغاية الجمال، ها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لمن يَطلُب منه وصيَّة: ((لا تغضب))[1] ، ويقول - عليهِ الصَّلاة وَالسَّلام - لرجل آخر: ((قل آمنت بالله، ثمَّ استقم))[2].

كتابٌ عَظيم:
إنَّ الجمال كتاب عظيم، واضِعه مزيِّن الأرض والسَّماء، والمعرفة جمال، والذَّكاء جمال، والتَّضحية جمال، والحبُّ جمال، والإبداع جمال، وسحر قطرات النَّدى على وجه زهرة نَضِرة جمال، ودمعة طفل بريء على خدَّيه جمال، وبسمة الرُّوح جمال.

والجمال شعلة أخَّاذة تفتن الوجدان؛ لأنَّه إكسير الحياة الَّذي يتدفَّق في الشَّرايين كالسَّيل، ويَغمر الأرض، ويعدها بثوب فسيفسائيٍّ رسمته ريشة الإبداع.

الجمال ينبثق معبِّرًا عمَّا هو إنساني، وما أكثر ما ندَّد البيان الإلهيُّ بالموقف القبيح! يقول القرآن عن الطُّغاة مِن أمثال فرعون وهامان وقارون وغيرهم: ﴿ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴾ [القصص: 42].



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق