27 أكتوبر 2014

نحن والفشل // وهيبة سكر

الحديث عن محطات الفشل في مسيرة الحياة يدعو صاحب النفسَين المطمئنة واللوامة إلى الاعتراف بعدم العصمة، وأن الكمال لله تعالى والعصمة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأما صاحب النفس الأمارة بالسوء فلن يجد إلا تبرير فشله بدلًا من تفسيره والاعتراف ببشريته وطبيعته الخَلقية، والمكابرة في أن حياته كلها نجاح لا تعرف الفشل، في حين أن الفشل هو في الغالب طريق النجاح والفلاح، ولولاه لما عرفنا للنجاح ذوقه وللفلاح أريحيته، ولذا فأحسب نفسي حاملًا لكتلة من الفشل منذ ولدت وحتى أموت، لكنني حين أراها هكذا فلأجل أن أعترف بإنسانيتي وأكسر غرور بشريتي وأطمح إلى الإيمان بفطرتي، وحينما أشعر بالإحباط وتغلغل اليأس فأرجع لأرى نجاحاتي لتعزز طموحي نحو الأهداف الدينية والدنيوية، وحينما أشعر بالغرور وتسلل النرجسية فأعود لأستحضر فشلي لتعرف نفسي بأنني لا أستحق إلا أن أكون مخلوقًا ضعيفًا يحمد الله على فضله ويشكره على خيره ولا يغمط الناس أشياءهم.
أما تلك المحطات الفاشلة فنحمد الله أنها تذوب في مسيرتنا بخلاف نجاحاتنا التي تبقى مشاهدة بأعيننا قبل الناس، ولذا فالنفس التي لا تعترف بفشلها أو تستصعب استحضار أخطائها، فإنه دليل على المزيد من الفشل والفشائل، لأن إدراك أخطاء الماضي هو الطريق نحو الخط المستقيم بعدالته واعتداله وسرعة وصوله بلا ترنح ولا سقوط.
وحينما أعدت النظر في أربعين عامًا مضت، فقد وجدت فيها - كما كنت دائمًا ألوم نفسي عليها - بأنها تفشل كثيرًا، ولكن النجاحات أكثر بأعيننا، مع أنني موقن بأن الفشل في الحقيقة أكثر وربما أكبر، ولكن من نعمة الله علينا أننا ننساه، وإلا لتفطرت القلوب في دوام تذكره، وكما أن القاعد لا يسقط فكذلك الماشي لا ينام، فلنكمل مسيرتنا في الحياة ونستمتع بفشائلها لأنها بوابات نجاحاتها، وبه نعرف طعم تحقق آمالنا، ولولا الحرارة لما عرفنا طعم البرودة، ولولا العطش لما عرفنا طعم الارتواء، ولولا الجوع لما عرفنا طعم الشبع، ولولا المرض لما عرفنا طعم العافية، وفيما يأتي بعض ما فشلت فيه، وهناك ما هو أكبر منه ولم يمنعني من إيراده حيائي أو وجلي وإنما رحمتي بمن يقرؤه وتعزية لنفسه التواقة لنجاحات دائمة، ومنها:

 فشلت في (إرضاء الناس)، فإن سكت عنهم لاموني، وإن تكلمت من أجلهم عاتبوني، وإن أجبتهم قالوا مكابر، وإن تركتهم قالوا متكبر، وإن قلت لهم بأننا في النهار قالوا أنكر الليل الطويل، وإن قلت إننا في الليل قالوا أنكر الشمس في رابعة النهار، وبالتالي أدركت بأن إرضاء كل الناس غاية لا تدرك، وعليه فلا يمنعنا المخالفون من إبداء رأينا، وكذلك لا يمنعنا ذلك عن مراجعة أقوالنا وأفعالنا فربما أهدى إلينا الآخرون عيوبنا ولو بروح غير طيبة، فإنما العلاج من مرارته.
  فشلت في (إقناع الناس بالوسطية)، وهذا كحالي مع مسألة (الاختلاط بين الجنسين)، فإن ذكرت لهم الاختلاط المحرم إذ بهم يقولون إنك حرمت المباح، وإن أبنت الاختلاط المباح إذ بهم يقولون إنك أبحت الحرام، مع أن الأحكام التكليفية الخمسة تدور عليه، فقد يكون الاختلاط واجبًا كطواف الحج والعمرة الواجبين، وقد يكون مستحبًا كالطواف النافلة، وقد يكون مباحًا كالسير في الطرقات، وقد يكون مكروهًا كالأسواق المزدحمة، وقد يكون محرمًا كما هو بين المراهقين والمراهقات في التعليم والعمل ونحوهما، ولذا فشلت في إقناع الناس في التفريق بين مسألة وأخرى وكأنهم تجار الجملة فإما أن يكون كله حرامًا أو كله حلالًا.
  فشلت في (تكثير الأصدقاء)، حتى عموم الناس لم نعد نكسبهم لذواتنا وإنما لما يرجونه منا، فالصديق من صدَقك لا من صدَّقك، فإن صادقناه لم يتحملنا، وإن صدَّقناه لم يستفد منا، وحتى الكرماء في هذا الزمن أندر من الكبريت الأحمر، فإن أنت أكرمت الكريم ملكته، وهذا وجدته في كثير من الناس وعلى رأسهم بعض الأصدقاء، فقد أُحسن إلى أحدهم وأنساه، ثم أجده يسعى طول حياته برد الجميل، في حين أنني أجد البعض قد بلغ به اللؤم درجاته، ولكن لا يجوز أن نكرم الآخرين لأجل أن نملكهم أو نتركه خشية من أذاهم، ولذا من وجد صديقًا صادقًا فليعظ عليه بالنواجذ فإنه معدن نادر.
 فشلت في (البوح بما في النفس تجاه الآخرين)، فإن كشفت ما أراه من سلبيات تجاههم كمناصحة لهم فربما خسرت الأقربين، وإن أسررتها في النفس بقيت تؤنب الضمير، وأما البوح بإيجابياتهم فربما فسروها مجاملة إن كانوا في مستوى الأقران ورحمة إن كانوا دون ذلك وتزلفًا إن كانوا فوق ذلك، والسكوت لا يعدله شيء.
 فشلت في (التقليل من القراءة)، حيث إنني أقرأ يوميًا بالساعات الطوال، وقد يكون على حساب واجبات حياتية أخرى، وحينما جاءت التقنية الإلكترونية أصبح جهاز الحاسوب يتنقل معي في أسفاري، ثم جاءت الهواتف الذكية فأصبحت القراءة حتى في السيارة وعلى مقاعد الانتظار، ولعل هذا يكون من النهم في التضلع بالعلم والثقافة وليس لمجرد المتابعة للأخبار والحوادث، وأصبح المسموع يقوم مقام المقروء عند قيادة السيارة، وكذلك المرئي في أوقاته، فهذه التقنية بقدر ما تنفع إلا أنها تشغل المتابع، والموفق من استطاع جلب خيرها باعتدال ودرء شرها باقتدار.
  فشلت في (المقدرة على الصمت وكسر القلم)، مع أن منهج السلامة يحقق مكاسب الدنيا بخلاف سلامة المنهج الذي خسرنا بسببه الكثير لمجرد فهم قاصر لأن سوء الفهم جاء بسبب سوء التعلم مع سوء الظن ليحصل بهما سوء القصد فسوء الحكم، ولن يضر إلا صاحبه في الدارين، وأكثر ما تضررت منه مقالاتي، فكل أحد يفسرها بحسب عقله وربما قلبه، وبما أن فينا سماعين لهم فقد دفعنا و - لا زلنا - الثمن.
 - فشلت في (إقناع نفسي بأن الفشل نوع آخر من النجاح)، لأن مجرد إدراك المرء بأن هذا فشل، يعني مقدرته على التقييم ومن ثم التقويم لمقبل الأيام، وحسبنا قوله تعالى: }وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ{، وقوله تعالى: }فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا{، لأننا قد نراه فشلًا لعدم تحققه وهو في الحقيقة صرف لصاحبه عن شر أو إلى خير أكبر.
  فشلت في (تجنب الفشل)، فكلما حاولت تفادي الوقوع في الإخفاق إذ بي أقع فيه أو هو يقع علي أو يوقع بي، وهذا دليل على أن التوفيق من الله مهما فعلنا الأسباب، ولكن لا يعني هذا أن نقصر في المبادرة بالتلافي والحماية من الخطأ قدر المستطاع.
  فشلت في (الكتابة عن الفشل)، لا لأني بريء منه، ولكن لأنني لم أعتد التوقف عنده، مع أن النفس تحتاج أحيانًا لتذكر أخطائها ولو لم يكن لها يد فيها، ولكن ليس من الحكمة والمصلحة أن نرمي بفشلنا على غيرنا، فلنفرز ما نحن السبب فيه لنتلافاه في المستقبل، وما لا سبب لنا فيه لنسعى في معالجته ما قدرنا عليه.
• وكما فشلت في حياتي كثيرًا فقد أنجح بأن أقنع قراء المعرفة بأنني كائن بشري له روح وجسد مثل الآخرين تمامًا يفرح بالنجاح ويتوق إليه ويحزن على الفشل ويفر منه، وأن الذي لا يفشل هو الميت، وما دمنا أحياء فلن نفشل بأن نقنع الناس بأن وراء كل نعمة نقمة وكل غنم بغرم ولا جنة إلا بعمل وجهد رزقنا الله إياها وجميع القراء.
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق