28 فبراير 2016

للماضـــــــــــــــــــي حنيـــــــــن // بقلم وهيبة سكر


للماضي حنين جاذب وللقلوب وللعقول سالب وشوق كبير يُمزِقُ كثيراً من صور الحاضر المنمقة، والتي تبدو وكأنها ممزوجة بماء الذهب يحيطها برواز بكل ألون الطيف، ويحرق لحظات إنسان هذا العصر المزخرفة والغارقة في الأحلام والمغموسة في حياة الأنانية والرفاهية، وهذا الحنين يبدد بكل قسوة كل الأستار والحجب التي يحاول جيل اليوم أن يجعلها الفاصل بين الماضي والحاضر، ويسري بالفكر في غياهب الخيال لينتقل بسرعة دونها سرعة الضوء إلى مرابع الماضي ليستعيد أطياف تلك الصور الماضية ويشمُّ من خلالها عبق عبير التأريخ وصدق المشاعر فيعقبها نظرة خجولة ولحظة كسيرة تبعث في النفس حسرة وفي النفس لوعة وفي القلب رقة وفي الصدر آهة وزفرة، وفي اللسان نبرة تنم عن دوافع كثيرة ورغبة جموحة للعودة إلى الماضي بعبقه وبساطته، وتحاول استعادة تلك اللحظات الموغلة في ماضي الإنسان بآمالها وآلامها وهمومها وشجونها.

يقول الشاعر : رب يوم بكيت منه فلما ......... صرتُ في غيره بكيت عليه .

إن هذا الحنين للماضي حالة نجد أنها تتلبس بعض كبار السن بوضوح ظاهر بل أن كثير من مواليد العقد الرابع الماضي يسوقهم هذا الحنين أيضاً إلى الماضي، وتجدد هذه اللحظات والذكريات كلما مرَّ مناسبة أو حالة تذكرهم بذلك الماضي الجميل، وتجد أن كثير من هؤلاء وأولئك يعشقون الحديث عن الماضي ويفخرون بما كان فيه رغم قسوة الحياة آنذاك وصعوبة العيش فيه .فهي إذن ليست حالة فردية بل كثير من الناس يتوقون للماضي ويتمنون عودة شيئاً من عبقه وسحره وإرهاصاته وغرائبه وطرائفه، هذه الحالة قد يعتقد بعض الذين في العقد الثاني والثالث – أي ممن أعمارهم تقل عن ثلاثين سنة – أنها ضرباً من الجنون ، فكيف الحنين إلى ماضٍ لا تتوفر فيه أبسط وسائل الرفاهية من مسكن وأثاث ونقل واتصال!؟ والعزوف عن حاضر ينعم فيه الإنسان بمواصلات مريحة واتصالات سريعة وتتوفر فيه كل وسائل الرفاهية فهي في متناول الصغير قبل الكبير، فالبيوت تزخر بالأثاث الفاخر والراقي ؟! والملابس من كل نوع وصنف وموديل تأتي من كل بلدان العالم والعطور الشرقية والغربية تمتلئ بها الأسواق وصالات العرض، والسيارات من كل طراز حديث وسائل الاتصال الأخرى لم تعد مجرد رسالة بريدية تصل لصاحبها بعد أسابيع وربما شهور، أو برقية من كلمات معدودة على الأصابع لا تكون في كثير من الأحيان إلا في خبر مفجع، ومن كل هذا فإن هذا الجيل يرى أن الحنين للماضي نوع من العبث وكفران النعمة ! هكذا يتصور بعض أبناء الجيل الحاضر، ولكن الأمر غير ذلك فهناك أشياء لا يعرفها هذا الجيل أو أغلبهم وهي أشياء كثيرة قد ضاعت في زحمة هذا التقدم الحضاري وزخم هذا السعي الحثيث واللهاث السريع وراء معطيات العصر والرغبة في امتلاك هذه العمائر الضخمة والأموال الطائلة والمواصلات والاتصالات .

إن النفس لا تأنس ولا تطمئن في مكان تراه غريباً عليها مهما توفر في هذا المكان من رقيٍّ في المسكن والأثاث والنعيم أو الملبس أو الأكل أو المواصلات ، فالعبرة بما تهواه النفس وتميل إليه ، ألا ترى تلك البدوية التي تزوجها الخليفة وأسكنها أفخم القصور ووضع تحت تصرفها أغلى الجواهر ومع كل هذا يجد الخليفة بأن تلك المرأة تحن لماضيها حنيناً تملك عليها كل حواسها فسمعها تقول :

لبيــتٌ تخفــُــقُ الأرواحُ فيه ......... أحبُّ إليّ من قصرٍ مُنيفِ

وكلبٌ ينبحُ من حول خدري ......... أحــبُّ إلى من قِــطٍ أليفِ

إن الحنين للماضي سببه ما طرأ على التركيبة الاجتماعية من خلل كبير ، فبرغم التقدم العلمي في وسائل الاتصال فقد زاد التباعد بين الأهل والأقارب في كثير من الحالات ، وبرغم توفر الإمكانيات التي يستطيع بها الأبناء البرَّ بالآباء إلا أن بعضهم قد تخلى عن الأب والأم رغبة في إرضاء الزوجة وقديماً كان الابن مع أبيه في بيت واحد وزوجته تعامل أبيه وأمه معاملتها لأمها وأبيها .

أن التآلف بين الناس الآن ليس كما ينبغي والحب والود بين الأقارب ليس كما يرام ، وتغيرت المفاهيم وتبدلت المعاني والقيم والمعايير ، فالتعاطف أضحى عند البعض ضعفاً وخوراً والرحمة مسكنة وتخاذل ، والنصب والاحتيال شطارة ذكاء، فالعصر لا يعترف إلا بالقوي وصاحب الجاه والثروة.

إن أسباب الحنين للماضي ليست كما يتوهم البعض فيظنها مرض وسادية تعتري سلوك بعض الناس فيعزف عن وسائل المواصلات والاتصالات وعدم الرغبة في غشيان المراكز التجارية والمولات والحصول على مزيد من الأرصدة والمليارات، فيشتاق إلى السير على الأقدام الحافية بالملابس الرثة البالية وشظف الحياة وقسوتها وندرة وسائل الحصول على المال، فلا يجد إلا رعي الماشية وحرث الأرض والتجارة البسيطة. ليس الحنين للماضي هو من هذا القبيل البتة ، بل أن أسباب ذلك ما أعترى علاقات البشر من فتور وصل إلى حد القطيعة للرحم وأكل مال الأخ واغتصاب ميراث الأخت،وتناسي حق الأب والأم والتكالب على متع الحياة الزائفة، وتغير المفاهيم والمعايير في كثير من سبل الحياة ومنافذها بل أن طعم العيش قد تغير ولذة الشرب اختلفت رغم ما طرأ عليها من وسائل التقنية .

لقد كان في الماضي ثراء الأخ هو ثراء لأخيه ووالديه وأقاربه وذوي رحمه ، كان التعاطف والتراحم والتلاحم بين الأسر والجيران يعبر بصدق عن قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : [ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ] كان المريض تحيط به أسرته كل يود أن يفديه بماله وبما يملك، وكبير الأسرة له سلطانه وكلمته على الصغير والكبير، بل أن الحي والقرية كلها تعترف بفضل ذلك الكبير وتجله وتقدره ، واليوم قد تلاشت هذه القيم والمعاني وتلاشت معها الصور الجميلة فلم يعد للعيد سعادته وفرحته ولا للعرس جماله وروعته ولا لحضور الغائب بهجته ولا للضيف احتفائه وتكريمه ولا للجديد رونقه فتلاشت كل المعاني الحلوة ولم يبق إلا ماديات بلا روح ولا طعم ولا رائحة ، ولهذا يشتاق ويحنُّ كثير من الناس لذلك الماضي الجميل ببساطة الحياة فيها وحلاوة الاجتماع وشذى عطره وعبق التآلف والترابط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق