9 يناير 2016

هكــــــــــــــــــــــذا هو نـــــــــــــــزار قبانـــــــــــــــــي // وهيبة سكر

هكذا ردّ الشاعر نزار قباني على الناقد مارون عبود عندما وجه له مارون رسالةً ينتقد فيها خروج نزار في قصائده عن بحور الشعر التي وضعها الخليل وكتابته بطريقة التفعيلة.
صدقاً هكذا يتم تجديد الأدب.
رغم طولها ولكنّها تستحقُّ القراءة.
يقول نزار قباني :
أستاذنا الكبير تأخرت عن موعدك الأخضر قليلاً. كان عليَّ أن أسبق الشمس إلى ستائرك .لكن الوهج المغنِّي في معركة بورسعيد أكل أعصابي .. كلَّ أعصابي . سرق السلام من قلبي .. جبلني بحمرة جرح .. جعلني جرحاّ يمشي .فلا تؤاخذني إذا وصلت متأخراَ ,

 لأن الكتابة إليك رحمة وسلام . واللعب بالحرف , بالفاصلة السكرى , يحتاج إلى حد أدنى من السكون ... وهذا ما لم أعرفه ولا أريد أن أعرفه.هل نبدأ الآن ؟

هل تفتح لي قلبك ؟يعتبر بعض الناس أنفسهم سعداء إذا وجدوا في امتداد زمني واحد مع واحد من هؤلاء العباقرة الذين أعطوا الانسانية تراثاً لا تزال الأرض تشرب منه وتسكر ..الذين عاشوا في عصر بيتهوفن وموزارت وليست , والذين عاصروا تولستوي أو ليوناردو دافنشي أو غوغان أو رودان أو فان كوخ .

 كل هؤلاء يعتبرون أنفسهم من رفيعي الأقدار .ويوم يجيء الدور إلينا ويسألنا سائل : وأنتم يا شعراء الفترة الممتدة من عام 1940 صعوداً إلى اليوم .. من هو هذا الكبير الذي كان يقيِّم آثاركم , ويزن الريش النابت في أجنحتكم , ويدوزن الأنسجة الطرية في حناجركم؟يوم يواجهنا سائل بمثل هذا السؤال سنقول له بدون أدنى تردد : ))

كتبنا شعراًفي عصر مارون عبود .. وعلى محكّ هذه السنديانة الماردة برينا أقلامنا .. وتركنا أسماءنا ..

 (()) سنديانة (( .. نعم وجدتُ الكلمة . سنديانة من هذه السنديانات التي تفتح زنودها لمئات العصافير الزائرة .. لا تبخل على واحد منها بخيمة ظل , أو سرير ورق أخضر .. أو زوادة قش تحمِّله إياها قبل أن يذهب

..من هنا ينبع مجد السنديان . مجدك يا أستاذي. يا مضيف الأجنحة المليسة الزغب , يا حاضنالشرانق الحبلى بألف خيط حرير , يا مالئاَ مناقير العصافير الهابطة إليك زهراً .. ورمَّاناً ..وحبَّات كرز ..قلَّ أن عرف الأدب العربي ناقداً تطهَّرت ريشته من سواد الحقد 

.. وتبرأ قلمه من حليب الكراهية العكر .كل معاركنا الأدبية هي أشبه بمعارك الدجاج والديكة .. ريش نافش .. ومخالب تغرز في الأعناق .. ومناقير استبدلت الغناء بالعض وفقء الأعين
..ويظهر أننا لم نتحرر حتى اليوم من أسلوب النتف والسلخ في نقدنا . فما زال الدجاج الناقد لدينا كثيراً .. وما زالت الغرائز الدجاجية هي السلوك المميز لأكثر نقادنا .فكل أثر أدبي يدخل مختبرهم ... وكل خارج منهذا المختبر مولود ..فإذا تحدثت اليوم عنك , عن السنديانة التي تطعم العصافير وتظلها , فانما أتحدث عن أخلاقية جديدة , عن ظاهرة غريبة في تاريخ النقد لدينا .فلأول مرة يتحرر الحرف على يدك من رجس الشتيمة ,

 ليصبح أداة عبادة .. لا مطرقة حدادة..لأول مرة .. نعرف معنى التسامح .. معنى ) التعايش الفني ( إذا جاز لي أن أستعير التعبير من قاموس السياسة , حيث يقول بعض الساسة بين شتى النظم السياسية على تبايندروبها وغاياتها .فلماذا لا نطبق هذه النظرية في الفن , وننادي ) بتعايش فني ( تعيش فيه المذاهب الفنية على تباينها جنباً إلى جنب , حتى يتولى الزمان أمر الفصل في هذه المذاهب وتقييمها
.أستاذنا الكبيرما قلته في شعري كرامة لشعري . حياة ثانية للحروف التي عاشت معي حياتها الأولى.لقد عاشت ) قصائدي ( بين يديك كما تعيش البنت في بيت أبيها .. حلوى .. وأثواب .. و ) أشيا أُخَرُ ( . ولكن لماذا أنت غاضب على )
جانين ( ؟ متمسك بالوزن والموازين ؟ ) فجانين ( هذه تعيش في أحد أقبية سان جرمان لا في برقة ثهمد .. إنهاتلبس البنطلون .. والخفَّ المقطع .. وتلثغ بالفرنسية .. وتمزق ثوانيها وتهبها لليل ... لجحيم موسيقى الجاز .. للاشيء ..إنها تعيش حضارة معينة
. ونحن كصيَّادي صور , لا يهمنا أن تكون الحضارة حضارة قلق وسواد وتشرّد , أو يكون القبو الذي ترقص فيه كقبو الماعز .. كلُّ ما يهمنا أن نرسم جانين هذه في إطارها الزماني والمكاني .. أن نفاجئها وهي في وسط حلبةالرقص ترمي خصلة من شعرها لليل .. وخصلة لله ..إنني أعالج بقصيدتي )

وجودية ( فلسلفةً كاملة هي الوجودية , وأحاول بلقطات صغيرة أن أخلق الجو لقارىء لم تقدمه قدماه إلى هذه الأقبية . لذلك كان لا بد من تغيير المخطط التقليدي للأداء
.كان من المستحيل عليَّ أن أكتب عن جانين ... والجاز .. والمونمارتر .. بالبحر الطويل .. أو البسيط .. لأن صلة الموضوع بإطار العرض حقيقة لا يمكن الفرار منها .هل تريد تجربة صغيرة على ما أقول . إذن فاسمع يا معلم الذوق الجميل :يا دار ) جانين ( بالعلياء فالسندِأقوت وطال عليها سالفُ الأمدِ ..أعوذ بالله , وبك , وبكل صاحب ذوق مرهف من هذه السماجة .البيت كما ترى مهندس وفق مخطط الأجداد , موزون بميزان صيدلي , مرسوم بمسطرة ...ومع هذا فهو مصيبة المصائب
 .لماذا ؟لأن الخياط الذي فصل البيت فصله على جسد) ميَّة ( المواطنة السمراء في صحراء نجد ...فحين ألبسناه بعد ألف وثلاثمائة سنة ) لجانين ( المواطنة الفرنسية القاطنة في الرقم73 بولفارسان ميشيل ... أغمي عليها .
قلت في مقالك القيم ان بحور الخليل هي أنغام الحدود وموسيقاهم الكلامية , وان القافية هي وقفةنغم على حدود اللانهاية , كما قلت إن الخليل هو واضع النوطة الموسيقية لأهازيجنا وأغانينا .
كل هذا كلام حسن ولكن له تتمة . لم يعبد أحد موسيقى الشعر عبادتي لها . فهي أساسالبناء الشعري لدي . ولكني لا أتصور موسيقى الشعر ارثا أبديا لا يأبه الباطل من امامه أو من خلفه .
 لاأتصورها حكما من احكام محكمة التميز لا يقبل الطعن او الاعتراض .ان كون )البزق( او ) الناي ( من تراث الاجدادلا يمنعني او يمنعك من ان نطرب لالة مستحدثة كالبيانو .. أو الكلارينيت . أو الأوبوا ..أو أن نقف موقف المتعبدين من ) بولونيز ( شوبان وسمفونية بيتهوفن الريفية و)بحيرة بجع ( تشايكوفسكي ..

.على نفس المقياس أقول : إن كون الخليل بنأحمد هو الذي وضع النوطة الموسيقية لأهازيجالأجداد , لا يمنعني من جانبي أن أضع النوطة الموسيقية للإطار الحياتي الذي اعيش فيه .بل لا يمنع أي فنان من بلادي أن يبدع سمفونيته الخاصة فيحذف نغمة .. ويضيف نغمة .. ويعمِّر كناً شعرياً بألف شكل وألف أسلوب .

الفن الشعري كالفن المعماري يمكن فيهما توليد أشكال لا حصر لها . فكما أن الفن المعماري يعتمد على وحدة أساسية – هي الحجر 0 لإخراج ألوف التصاميم ,
 فان بامكان الشعر أن يأخذ الوحدة الاساسية في بناء القصيدة العربية – أي التفعيلة _ لتوليد اشكال شعرية لا نهاية لها .هذا ما يحدث تماماً في السمفونيات العظيمة , حيث تكون النواة فيها جملة موسيقية بسيطة , ثم تبدأ الاضافات على النواة الأساسية , نغومة تنادي نغمة .. وقراريجذب قراراً .. ورعشة وتر هنا .. وشكوى كلارينيت هناك .. حت يكتمل بناء السمفونية العام و وتنعقد حلقاتها , وتغدو عالماً بشموسه, ومحيطاته , ومجرّاته

.إنطلاقاً من هذه النقطة كتبت قصائدي التي اعجبتك : ))
حبلى (( و )) خبز وحشيش وقمر ((و)) سامبا (( . فهي جميعاً محاولات واضحة لتطوير النغمة الاساسية واللعب بها
.إنني لا أدعي كمال هذه الاشكال الجديدة . فلا شكل نهائي في الفن . وانما اقول إننانعطي الصلصال القديم ملامح جديدة . لا تزال ايدينا في الطين .. ولا تزال ازاميلنا تبني وتكسر .. تضيف وتلغي .

 وربما مرَّ وقتطويل قبل أن تفرض هذه الأشكال نفسها على الذوق العربي .

 ولكن هذا يجب أن لا يثنينا عن اتمام المحاولة , كما أن النقاد يجب أن لا يتعجلوا الحكم على هذه المحاولة التي لم تتجاوز عمرها بعض سنوات .
 لأن من هذه المحاولات ما نجح فعلاً وبدأ يجد استجابة لدى الجماهير العربية
.أستاذنا الكبير ,أنت في تفكيرك ولقطاتك التي تشبه باتساعمداها لقطات ) السينراما 9 شيء مدهش حقاً .والأدهش ىمن هذا كله قدرتك الفائقة على تكييف ثقافتك العريضة وذوقك الرهيف مع اختلاف الفصول واتجاهات رياح الفكر والذوق .
 أما قلمك فهو أصبى من الصبا نفسه , أحلى من دفقة العافية .الذين وصلوا إلى سنك من أدبائنا لا يزالون في قاعات المجامع العلمية الرطبة
, يعانقون أكياس الماء الساخن , ويشربون كؤوس البابونج, ويتعاطون أدوية الروماتيزم .. وينظمون قصائد موسمسة تجلب الروماتيزم من مسافة الف ميل

..أما نحن الذين عاصرناك وأحببناك , وزمسحنا مناقيرنا الصغيرة بجذعك الرحيم العظيم , وسرقنا الحَبّض من جيوبك الممتلئة , فما رددت منقاراً ولا آذيت جناحاً .أما نحن فسوف نقول لمن يسألنا عن خصائص شعرنا وطابعه : ))

كتبنا شعراً في عصر مارون عبود .. 

وهيبة سكر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق