24 أكتوبر 2015

حكاية قطار الشرق السريع // وهيبة سكر

مؤلف هذا الكتاب هو الباحث الفرنسي من أصل روسي: فلاديمير فيدوروفسكي. وكان قد نشر سابقا العديد من الكتب التي لفتت الانتباه. نذكر من بينها كتابه الهام عن العلاقات التاريخية بين باريس وسان بطرسبورغ، أي بين عاصمة فرنسا وعاصمة روسيا. وهي علاقة حب وتفاعل ثقافي طويل وكبير منذ قرنين على الأقل. ونذكر أيضا كتابه عن الحرب الباردة الصادر في باريس عام 2002، وكذلك كتابه عن نهاية الاتحاد السوفييتي، وكتابه عن الجاسوسية الروسية الذي يحمل العنوان التالي: من راسبوتين إلى بوتين، رجال الظل (2001). هذا بالإضافة إلى كتب أخرى عديدة ومتنوعة.

وفي هذا الكتاب الجديد يتحدث المؤلف عن أشهر قطار في التاريخ: أي قطار الشرق السريع الذي صنع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من قبل شركة بلجيكية. وأصبح هذا القطار يصل الغرب بالشرق ويخترق مختلف العواصم الأوروبية من لندن إلى باريس إلى فيينا إلى براغ إلى بودابست إلى إسطنبول إلى بغداد. هذا بالإضافة إلى عواصم أخرى.ثم يردف المؤلف قائلا: لقد ربط هذا القطار بين مختلف أقطار أوروبا بل ويمكن القول بأنه هو الذي شكل الوحدة الأوروبية قبل أن تظهر بالفعل بعد قرن من الزمان. وفي أثناء القرن العشرين أصبح هذا القطار مسرحا للعمليات السياسية الكبرى أو حتى للعمليات الجاسوسية. ففيه، أو في إحدى عرباته بالأحرى، وقع الجنرال الفرنسي «فوش» على اتفاقية الهدنة التي أدت إلى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918.

وبعد عشرين سنة من ذلك التاريخ وقع فيه أدولف هتلرعلى معاهدة استسلام أوروبا له مع كل من رئيس وزراء بريطانيا ورئيس وزراء فرنسا. وفيه التقى العشاق الكبار مع بعضهم البعض وكذلك الجواسيس الكبار.

وهو نفس القطار الذي ركبه لورنس العرب وهو ذاهب إلى المشرق من أجل تحضير الثورة العربية على العثمانيين. وبهذا الصدد يقول المؤلف ما معناه: في صيف 1915 استقل قطار الشرق السريع رجل أبيض اللون، أشقر الشعر، وهو يحمل في جيبه مسدسا من العيار الثقيل. إنه ذلك الرجل المشهور باسم لورنس العرب. وكان ذاهبا إلى بغداد عبر إسطنبول.

ولكن من كان هذا الرجل بالضبط؟ هل كان مدعيا مغرورا، أم جاسوسا، أم خائنا وعميلا؟ على هذا السؤال أجاب ونستون تشرشل قائلا: كان أنبل شخص أنجبته البشرية! في الواقع أنه كان مغامرا من الطراز الأول. كان يبحث عن معنى لحياته فلم يجده إلا في الجاسوسية أو العمل الدبلوماسي السري.

وكان مهووسا بالشرق منذ نعومة أظفاره ويريد اكتشافه. وقد ذهب إلى المشرق العربي تحت غطاء عالم آثار ولكنه في الواقع كان مكلفا باستنهاض العرب لكي يثوروا ضد الإمبراطورية العثمانية التي تضطهدهم. كانت إنكلترا قد قررت آنذاك أن تسقط السلطان العثماني بعد أن حمته لفترة طويلة إبان القرن التاسع عشر ضد هجمات القيصر الروسي.

والواقع أن السلطان اتخذ قرارا غبيا بالانضمام إلى ألمانيا ضد إنكلترا أو حلفائها. وينبغي الاعتراف بأنه تردد كثيرا في الأمر قبل أن يحسم الموضوع. وقد دفع ثمن ذلك غاليا. فما كان هناك شيء يجبره على دخول الحرب العالمية الأولى، وإنما كان يستطيع أن يقف على الحياد.

ولذا أرسلت إنكلترا عملاءها إلى المنطقة لكي يجسوا النبض ويحاولوا زعزعة استقرار الدولة العثمانية، ومن بين هؤلاء كان لورنس العرب. فقد عرف كيف يلعب على العاطفة القومية للعرب ويؤلّبهم على بني عثمان وسياسة التتريك التي يتبعونها.

ثم يردف المؤلف قائلا: ومعلوم أنه نشأت بينه وبين الأمير فيصل ابن الشريف حسين علاقة صداقة وطيدة وحميمة. وهذا ما ساهم في إقناع الهاشميين بإعلان الثورة العربية الكبرى على الإمبراطورية العثمانية عام 1916. وقد أدى ذلك إلى انفصال العرب عن الأتراك بعد أن ارتبط مصيرهم بمصيرهم لمدة أربعة قرون متواصلة.

ولكن الإنكليز غدروا بالعرب بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى منا هو معروف. ولم يساعدوا على تشكيل المملكة العربية الكبرى التي كانوا قد وعدوا الشريف حسين بها.وإنما راحوا يقطّعون المنطقة إلى دويلات صغيرة كالعراق، وسوريا، وفلسطين، وراحوا يتقاسمون المنطقة مع الفرنسيين. بل ووجهوا للعرب أكبر ضربة غدر عندما ساهموا في إعطاء فلسطين لليهود.

وبعد الحرب شعر لورنس بأن بلاده غدرت بالعائلة الهاشمية التي كان يحبها فعاد إلى إنكلترا مغموما وهو يشعر بالخجل والعار أمام أصدقائه العرب. ثم مات في حادث سير بعدئذ وضمن ظروف غامضة، وكان لا يزال في أوج شبابه.وبعدئذ يتحدث المؤلف عن الكاتبة البوليسية الشهيرة أجاثا كريستي ويقول: كان لقطار الشرق السريع الفضل في أنه ألهم أجاثا كريستي ثلاثا من رواياتها الخالدة: موت على النيل، جريمة قطار الشرق السريع، موت في وادي الرافدين. وقد مثل بعضها على شاشة السينما من خلال أفلام بوليسية شهيرة.

والواقع أنها كانت من زبائنه لفترة طويلة، وكانت قد استقلته عام 1930 عندما سافرت من لندن إلى القاهرة بدعوة من بعض أصدقائها الإنكليز. ومعلوم أن مصر كانت واقعة آنئذ تحت الاحتلال البريطاني.

ومعلوم أيضا أن أشهر كاتبة بوليسية في العالم كانت مولعة بالشرق مثل لورنس العرب وأكثر. ولكنها لم تكن عضوا في المخابرات الإنجليزية على عكس لورنس. ومع ذلك فإن من كان يراها تراقب كل شاردة وواردة في القطار كان يعتقد بأنها جاسوسة إذ كان يجهل أنها روائية. فالروائي بحاجة إلى وصف دقيق للأشياء قبل أن يكتب عنها. وبالتالي فهناك صفة مشتركة بينه وبين الجاسوس: هي المراقبة الدقيقة للوسط المحيط وكل ما يحدث فيه.

وقد أرسلوا معها شابا لكي يرافقها في هذه الرحلة الطويلة. وكان عالم آثار إنجليزي يدعى ماكي مالوان. وقد أصبح دليلها في الرحلة لأنها يعرف الشرق جيدا وكانت تكبره بخمسة عشرة سنة تقريبا. فقد كانت في الأربعين ومطلقة، أما هو فكان في السادسة والعشرين وأعزب. وقد نشأت بينهما قصة حب داخل القطار وتزوجا لاحقا وأصبحا من أسعد الناس. وعندما التقى بها لم يكن يعرف عنها أي شيء ولم يكن قد قرأ لها أي كتاب.

ثم يردف المؤلف قائلا: وقد سافرا بعدئذ مرارا وتكرارا إلى الشرق من خلال هذا القطار السريع الشهير. وكانت وجهتهما في أكثر الأحيان سوريا حيث توجد آثار كثيرة في منطقة الجزيرة. وقد ساعدت أجاثا كريستي زوجها كثيرا في اكتشاف الآثار.

وكذلك سافرا إلى العراق أيضا مرارا وتكرارا لأجل نفس الغرض، بل واشتريا بيتا في بغداد يقع على ضفاف نهر دجلة. وبالتالي فقد أثر الشرق كثيرا على كتابات أجاثا كريستي بسبب هذه الرحلات والإقامات الطويلة فيه.

هذه هي باختصار سريع قصة هذا القطار الأسطوري الذي أصبح قطار الملوك والأرستقراطية الغنية والراقية في فترة من الفترات. كما وأصبح قطار الجواسيس والفنانين وقصص الحب الكبرى.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق