20 سبتمبر 2015

أسطورة جلجامش وشعوبنا العربية // وهيبة سكر

تسترعي الملحمة العراقية العالمية كلكامش المفكرين والأدباء والانثربولوجيين، لقوة النص وبلاغته التي دوّنها أبناء العراق قبل آلاف السنين، وسطروا فيها أحلامهم وتوقهم للخلاص، لحرية ينشدونها وظلوا يحلمون بها من حاكم بخس حق شعبه في أوروك ، اذ أوغل كلكامش في أيذائه لأبناء أوروك وأزداد بطشاً لهذا الشعب الذي لم يجد لنفسه حلاً إلا باستجداء الآلهة والتضرّع اليها للخلاص من بطشه وفتكه بهم، وذلك أن تنزل ببطل منازع لـ كلكامش الفتاك والمكتسح لحرماتهم، لينازعه المُلك ويكسر شوكته، ويخلصهم من تسلطه وجبروته.
استجاب الآلهة لتضرّعات الشعب المبتلي فأنزل أنكيدو القوي الشبيه بالحيوان انْ لم يكن حيواناً بالفعل، واستبشر الشعب خيراً بمقدم البطل الذي سيلوي كلكامش ويزيحه عن طريقهم. إلا انّ البطل انكيدو ليس ببشري، قوته المفرطة، قوة حيوان يصعب التغلب عليها. إلا ان الفكر العراقي القديم استطاع ان يصور وظيفة تناط بالمرأة وإنْ كانت مومساً، إذ يبرز دورها بصورة لا تقبل الشك، وذلك بترويضها لهذا المخلوق القوي انكيدو الذي عاشرته اياماً، فتحوّل هذا الكائن الغريب من حيوان الى انسان، وبذلك تهيّأ فكرياً وجسدياً للمهمة التي أوكلتها الآلهة له وتتلخص بمنازعة كلكامش والتخلص منه، استجابة لشعب أوروك .
وما ان سمع الاخير به حتى أراد القضاء عليه والتخلص منه، باعتباره يشكل تهديداً كبيراً لوجوده وحكمه وسطوته التي لا تعرف الحدود، لهذا اعتبر انكيدو الطارئ قد استباح ملكية كلكامش ، من هنا تحتم القضاء عليه والتخلص منه، لينعم كلكامش بحياته الهانئة وسط شعبه الخانع لنزقه وليعبّر عن صلابة إرادته التي تفوق إرادة الشعب والآلهة ايضاً.
انّ قوة كلكامش ستكون في الميزان ومستقبله مرهون بإزاحة القادم الغريب وانْ كانت الآلهة هي من أرسلته، فـ كلكامش لا يعترف بحق ولا يؤمن بغير نفسه، والا كيف نفسّر توقه للإجهاز على أنكيدو ، أليس دفاعاً عن ملكيته؟ وبسط قبضته الحديدية على الاوركيين.
وسرعان ما حدثت المنازلة بينهما، ولم تنته بنصرة احدهما بل تعادلا، فكلاهما قوي، ويصعب التغلب عليه، و انكيدو أظهر البأس والإقدام والقوة والمطاولة، وهو يقارع كلكامش الذي أدرك صعوبة ثنيه وبالتالي إزاحته نهائيا.
هنا يظهر العقل السياسي للبطل كلكامش وذلك بجعل انكيدو من قوة تتقصّد إطاحته واقتلاعه من الحكم الى قوة مضافة لوجوده تعزز بقاءه وترسخ تفرّده بالسلطة
وإبقاء الأوركيين تحت سلطته، من خلال إبرام الاتفاق مع من دفعته الآلهة للدفاع عنها.
ويلاحظ انّ كلكامش لم يكن نزقاً مع شعبه فحسب، وانما مع الآلهة التي يقف أمامها بالمرصاد، متحدّياً لا يخشى شيئاً، بوصفه الحاكم المطلق اليد على شعب لا يعرف الرفض وإنما التوسل والاستجداء، ويرضى ويخنع لإرادة كلكامش .
السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان شعب أورك عاجزاً عن إزاحته والتخلص منه؟
الاجابة ستكون نعم، إذ رضخ الاوركيون للمصالحة بين البطلين الفتاكين، وهذا يعني بقاءهم تحت نير العبودية لحاكمهم الذي لا يعرف الخوف، وهنا سؤال آخر يثار هو: متى بدأ التحوّل في سلوك كلكامش؟
ما أن مات انكيدو حتى استفاق كلكامش لفكرة الموت التي طوّقته بعد ان تسرّبت اليه مما عاناه صديقه القوي انكيدو الذي أوهنه المرض وشلّ قوته فطوّقه الموت.
أصيب كلكامش بالهلع بموت صاحبه. فالقوة التي يتمتع بها ستكون عرضة للموت. من هنا جاءت فكرة البحث عن الخلود، بعد ان استمرأ الحياة بصورتها الباغية على أهل أوروك، فقد زلزلت فكرة الموت قناعاته كافة، التي شكلت حداً لنزقه وقوة عمياء تنسلّ في ثنايا جسده لحظة تشاء،، لم يقوَ عقله بقبول ان يكون مسجياً فاقد للحركة، ولا يشدّ الآخرين إليه بخيوط السلطة والسلطان، لهذا بدأت رحلته بالبحث عن الخلود. خلود لـ كلكامش لا لشعبه، لذات البطل التي اتسعت لتكون آلهة لا تموت، بعمر امتداه الأبدية. اراد ان يبقى حياً ويزداد متعة بالحياة التي اصطفاها لنفسه والخلود وسيلته وهدفه الذي لن يحيد عنه. لهذا عبر البراري والبحار والجبال يجوبها بحثاً عن تلك العشبة التي تضمن له حق البقاء حتى لا يطاله الموت.
ما الذي نلاحظه بالملحمة الكبيرة؟ لقد صاغت عقلاً دكتاتوريا لا يرحم، وأنانية كبيرة عبّر عنها كلكامش بطلبه للعشب، فإن عاد بالعشب وأصبح من الآلهة الأزلية، فانّ أهالي أورك لن يأملوا بشيء آخر، لا بـ انكيدو جديد، ولا بحاكم عادل مثل كلكامش . اجتهد البطل ان يزيد من نفسه بطولة وانْ كان مرتعباً من جراء فكرة الموت، وذلك لكي يضفي الأزلية على كيانه بالخلود، لم يفكر بشعبه، ولا حتى فَكرَ بالخلود لهذا الشعب. كان مفرط الأنانية، ولم يشرك أحداً بالبحث عن عشبة الخلود، بل انفرد بنفسه ليجوب ويحصل على عشبة الخلود.
مرَّ البطل بالأهوال ولم يبق أمامه الا العشب الذي سرقه الطائر في اللحظة الأخيرة، ذهل وعاد أدراجه الى أوروك خائباً الى شعبه، وقد تغيّر البطل من دكتاتور مطلق اليد الى ورع يريد إسعاد شعبه.
انّ التحوّل لم يأت من إرادة خارجية فرضت على البطل، وانما حدث التحوّل من داخله، وشعور الخيبة اجتاح نفسه، فالبطل المهزوم في أعماقه، جعل منه الحاكم الخائب الجانح للسلم. استقبل شعب أوروك ملكهم خوفاً لا حباً، فقد عركوه في ما سبق، والمفاجأة لم تكن من الشعب بل من الحاكم الذي قرّر أولويات جديدة بعد ان فشل تماماّ في الحصول على عشبة الخلود.
ان تغيير سياسة كلكامش جاءت من كلكامش نفسه لا من شعبه، الذي ارتضى الأمرين. والسؤال: ماذا لو حصل كلكامش على العشبة وصنّف بعدها من الآلهة، أيكون منصفاً لشعبه؟
انّ الملحمة لم تطرح سؤالاً كهذا، لأنّ الإجابة ستكون عكس المتوقع والمنتظر، فقد ناضل البطل في البحث عن الخلود، ليعزز وجوده ويمنح نفسه الديمومة، وليقطع الطريق أمام كلّ من تسوّل له نفسه ليحتلّ مكانته.
والجدير بالملاحظة، انّ الملحمة أغفلت وتغافلت عن دور الشعب في إحداث المتغيّر بموقف كلكامش وترك الأمر للبطل ان يطرح فكراً بأولويات مغايرة عما هو معروف عنه، وما حلّ بأهل أورك لم يكن بفعل ما قاموا به وسعوا من أجل تحقيقه، بل بإرادة كلكامش نفسه. مما يعني انّ البطل كان بوسعه ان يبقى كما هو، لكن بإرادته الذاتية اجتهد بتغيير استراتيجيته السياسية.
من الطبيعي انّ الملحمة صوّرت العراقيين وشكلت نواة للفكر، وفي الوقت ذاته كشفت عن الخبيء في داخل تلك المجتمعات ونزوعها للاستسلام والخضوع، وكأننا نرى الجذور العميقة للفكر الدكتاتوري تلخصه الملحمة بوضوح كبير، على الرغم من كون الملحمة تعبير عن رؤى العراقيين القدماء وتلخيص لمفاهيمهم.
كيف نستطيع تفهّم فكر العراقيين القدماء؟ انّ الملحمة استخلصت مؤشرات الفكر وصياغته الفنية في الملحمة، وبلورت المفاهيم الأكثر سيطرة في حياتهم، وقد نفهم منها الدروس المستنبطة التي شكلت طريقاً للعقل العراقي، فإنّ الرغبة الذاتية للمتسلّطين على «دست الحكم»، تقودهم رغباتهم الذاتية لتمجيد أنفسهم وحقب حكمهم، من خلال شنّ الحروب والإيغال بمن تقع عليه تلك الحرب، انّ هذه الصورة المغالية والغريبة في الوقت ذاته، كانت تعبيراً عن سلطة الذات عندما تفرض تسيّدها وسلطانها، فشنّ الحرب، وقرع طبولها، وتوقع نتائجها بالتمجيد للمنتصر، تعني ثبات البقاء في الذاكرة: التاريخية والاجتماعية…

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق