الدعاء يعكس شكل تصور الإنسان عن الله ، لذلك ومن خلال رصدي للطريقة التي يُناجى بها الله اليوم في كثير من الخواطر والمواضع ، فإني أرى بأن التصور عن الله تصور مرتبك مبهم ، يُعامل فيه الله تعالى كصديق .. كشخص مقرب ، في صورة مفرغة من كل أشكال التعظيم والخضوع ، كلها تزلف وإبتذال وروحانية مبتدعة لا تعني سوى شيئًا واحدًا ، وهو أننا نحتاج إلى إعادة بناء معتقدنا عن ذات الله تعالى ، لأنه كما يبدو فقد أصبح معتقدًا ممسوخًا لا يليق بالله تعالى ولا يجسد العبودية التي يريدها سحبانه.
يقول الفيلسوف المتصوف عبد الجبار النفري في خاطره مع الله : "الذي يبوح بحاجته وشكواه إليّ ، يتخذ من لسانه مهربًا. اضمر حاجتك في قلبك ولا تبح بها ، أكن أنا مهربك وليس لسانك. والآمن من جعل مهربه إليّ (إلى الله) لا إلى لسانه ، فأنا لا تجير منّي الألسن ولا تنقذ منّي الأقوال ، فأقم لسانك على الصمت لي ، وقم أنت بين يدي".
عندما يدعو المؤمن الله تعالى ، فإن فكرة الدعاء في الحقيقة ليست تعريفًا لله بحاجته أو بما يتمنى ، لأن الله يعرف ما يضمره الداعي في مكنونه شرًّا كان أم خيرًا .. فالداعي ليس يقدم الدعاء لمخلوق ذي جاه يتزلف إليه بجميل الألقاب ويصوغ مطلبه في أحسن العبارات حتى يرفع فرصة قبول طلبه ، بل إنه يتقدم بالدعاء لله المحيط بكل شيء ، حتى بالخواطر والنوايا التي في الصدور والتي لم يطلع عليها أحد ، الله مالك كل شيء الذي لا حد لكرمه وعطاءه. إذًا فكرة الدعاء ليست إطْلاع الله على الحاجة ، أو على الندم أو على الحقيقة ، لأنها معروفة عند الله فهو لا يخفى عليه شيء ، وإنما تكمن فكرة الدعاء في أنها شعيرة كأي شعيرة يتقرب بها العبد إلى الله ، فهو يقيمها كما يقيم الصلاة ، بل إن الصلاة تُعرَّف على أنها الدعاء. وإذا أردنا أن نُمثّل على ذلك ، فلنستعرض صيغة التسبيح ، سبحان الله .. والتسبيح معناه التنزيه والتقديس عن كل عيب ونقص ، ولكن منطقيًا الله لا يحتاج للتسبيح ، لأننا سواء نزهناه عن العيوب وقدسناه أو لم نفعل ، فإن ذلك لن يغير حقيقة أنه منزه ومتقدس بذاته عن كل نقص وعيب. ولكن فكرة التسبيح كما يشرحها النفري رحمه الله في خاطره مع الله. يقول : "قال لي :سبحانك ، لا تسبحني ، أنا أسبحك" ، أي أن الذي يسبح الآخر فعليًا ، هو الله وليس العبد ، فنحن نقدس الله فنقول "سبحان الله" ، و الله مقابل ذلك يزكينا ويرفعنا بتلك التسبيحة درجات ، فالحقيقة إذًا أن الله هو الذي يسبحنا عندما نسبحه وليس العكس.
ومعنى كلام النفري "أنا مهربك وليس لسانك" ، أي أنك عندما تتوجه بالدعاء إلى الله ، فأنت ترتمي بين يديه وتستسلم له ، وعندما تحاول أن تنمق الكلمات في حضرته ، فأنت تعامله معاملة لا تليق به ، فكأنك تتزلف إليه بجميل العبارة كما تتزلف إلى ذي منصب من خلقه لكي يعطيك ما تطلب. لأن اللسان في هذه الحالة يكون هو الوسيلة التي يستخدمها السائل ليصل بها إلى حاجته ، والله تعالى لا يحتاج لأن يسمع كلامًا جميلًا ليعطيك حاجتك ، لأنه أصلًا أعلم بها منك ، إنما هو يريد منك أن تقر باحتياجك بكامل خضوعك واستسلامك لأمره. وعلى وجهٍ آخر ، فإنك يجب أن تسلم لله تسليمًا تامّا ، وأنت حين تستخدم لسانك للإسهاب في استعراض المبررات ، فإنك تحاول أن تصف له الحالة وتعلل له أخطائك وظلمك لنفسك ، ومعنى ذلك أنك تحاول أن تهرب من عدله بدلًا من أن تقر بظلمك ثم تستسلم لأمره.
دعا الرسل والأنبياء والصالحون الذين قرأنا عنهم في السير والذين عاصرناهم سمعًا لا نقلًا ، دعوا الله تعالى في أكثر المواقف فرحًا ورخاء ، كما دعوه في مواقف الإبتلاء والألم والحسرة .. كانوا وهم أقرب الناس إلى الله وأعرفهم به وأكثرهم حبًّا له ، يضعون عبادة الدعاء العظيمة في موضعها الحقيقي ، وهي أنها مناجاة خاضعة منكسرة يتقرب بها العبد إلى الله سبحانه وتعالى .. حتى في أكثر المواقف فرحًا وانتشاءًا وحبًّا ، كان دعاؤهم دعاء العبد المُخبت بين يدي الله تعالى ، الخاشع المعظم المشفق مما أسرف ، المحب المريد ، الخائف الراجي في ذات الوقت. ولذلك نجد أن منهج دعاء الأنبياء في القرآن هو الإقرار بالحالة مع توقير الله سبحانه ، وليس شرح الحالة والإسهاب والندب .. فنجد يونس عليه السلام يقول "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" ، بدون شرح للموقف ولا للظروف ، ولم يكن يونس ليشرح لله لماذا عليه أن يغفر له فيسهب في استعراض ظروفه وما مر به ، ولكنه اكتفى عليه السلام بأن يعظم الله تعالى ويقر بظلمه لنفسه ، ويسلم بعد ذلك لله بالقضاء ، ثقةً بعدل الله وكرمه وسعة رحمته. ثم نجد الصابر أيوب عليه السلام ، لا يشتكي ولا يتزلف إلى الله بالكلام ولا يسهب ، ولا يخبر الله بأنه يتألم ويعاني وأن عليه أن يخلصه من تلك المعاناة ، بل يقول في غاية التذلل والعبودية والتسليم "ربي إني مسني الضر وأنتَ أرحم الراحمين" .. وعندما نستعرض كل الأدعية المتعلقة بالرجاء في القرآن سنجدها غاية في التسليم والخضوع والإذعان لأمر الله تعالى.
وإذا ما تعلق الدعاء بالطلب في القرآن ، فإنا نجده ذو صيغة واضحة صريحة دون تزلف أو إسهاب أو تملق ، وبدون أي طريقة متكلفة لا تليق بالله تعالى. عندما تجلت الصورة لكليم الله موسى وتهيأ للمضي في أمر الرسالة: "قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا" ، فالمطالب في الدعاء جاءت في غاية الإيجاز والدقة والوضوح ، مع غاية التوقير والإجلال لله تعالى ، دون أي تملق في الدعاء أو إلتواء في السؤال ، فموسى عليه السلام يعلم أن الله يعلم ماذا يريد ، لذلك هو فقط ينطق بمسألته من باب الخضوع والعبادة ، لا من باب الإخبار. وفي دعاء موسى تجسيد لحديث أخيه محمد صلى الله عليهما وسلم ، عندما قال : "إذا دعا أحدكم فليعزم في الدعاء ، ولا يقل اللهم إن شئت فاعطني ، فإن الله لا مستكره له". وفي حديث الرسول الأعظم عليه السلام ، رسالة واضحة لتجنب التملق والإلتفاف في سؤال الله تعالى ومعاملته في الطلب كمعاملة المخلوق ، لأنها معاملة لا تليق بذاته تعالى ، فهو أعلم بحاجة العبد مسبقًا ، وإنما كان ذكر العبد حاجته في الدعاء تحقيقًا للعبودية والتذلل لله تعالى ، لا إطْلاعًا له عليها.
وإذا ما استعرضنا أدعية الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ، سنجدها كلها غاية في الإيجاز وغاية في التعظيم لله تعالى ، والدعاء إذا افتقد التعظيم أو الوضوح في المسألة ، وخالطه التزلف والتملق ، خرج من حقيقته وأصبح شيئًا آخر غير الدعاء. ولا ضير في أن يكن الإنسان عفويًا بين يدي الله تعالى ، ويفضي لله بما أتعبه ، ويستفيض في مناجاته ، فإن من أجمل اللحظات بين يدي الله هي لحظة الإستفاضة التي تتداعى فيها مشاعر العبد فيتلعثم ويضطرب ، فتارة يبكي وتارة يناجي الله ، ولكن بشرط ألا يناجي ربه وكأنه يناجي أبًا أو صديقًا ، أو شخصًا يجالسه ، فالمقام مقام خضوع وعبادة ، لا مقام صحبة وتملق.
إن هذه المقدمة الطويلة في شرح المنهج القرآني في الدعاء ، هي لأن فكرة الدعاء قد انمسخت ، وتأثرت بالخزعبلات الروحية ، وأصبحت أجد في أسلوب التخاطب مع الله ، شيئًا غريبًا لا يليق بذاته. أجد أن شكل اللهجة المستخدمة في الدعاء يجعلني أتصور بأن الله صديق نجالسه في السهرات وفي أوقات الخلوات ونفضي له بالهموم والأماني كما نفضي بها إلى بعضنا ، فأصبح الدعاء مفرغًا من الإخبات (الخشوع لله واستحضار عظمته وجلاله والشعور بالندامة على التفريط في حقوقه) ، الإخبات الذي هو روح الدعاء وجوهر فكرته. من العوامل التي مسخت شكل الدعاء ، هي طغيان ثقافة الروايات. اللهجة الروائية التي تُطعم فيها الأدعية بالأسلوب الإنجيلي الأدبي المتزلف في المناجاة ، الذي غالبًا ما بدا كحديث لا كدعاء. فالروايات تعج بأشكال غريبة جدًا من الأدعية المبتذلة. وسأكتفي بمثالين اثنين على ذلك ، " آسف يا الله .. شكرًا يا الله". والحقيقة أنه لا معنى لـ "آسف يا الله" ، فالله لا يناجى بهذه الطريقة الباردة ، الخالية من أي شكل من أشكال التعبد له بالتعظيم والخضوع ، وإنما هو يُسأل المغفرة في حالة عميقة من الإجلال والتعظيم مع الشعور بالندم. وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه الرسول أن يعلمه دعاء يدعو به في الصلاة ، فأجابه بأن يقول "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كبيرًا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" ، وهذا الدعاء موجز عميق يمزج بين تعظيم الله تعالى وغاية الاستسلام له ، فكيف إذًا بكل هذه البساطة يقول أحدهم "أنا آسف يا الله"؟ .. تعالى الله. وإذا ما أردنا أن نناقش "شكرًا يا الله" فهي أيضًا خاطرة ساذجة متملقة ، كأن المخاطب فيها صديق ، وليس الحق العظيم سبحانه.
في النهاية ، أنا لست أعلم أحدًا كيف يناجي ربه ، وليس ذلك من حقي ، إنما أنا هنا أدافع عن حق الله تعالى ، وأحاول أن أجلي فكرة خطيرة عن حقيقة العلاقة بالمولى سبحانه. إننا عبيد لله ، ونحن نناجيه على هذا الأساس ، أساس العبودية له ، ومناجاة الله خارج حدود تعظيمه والإخبات له ، شطحة لا تعني سوى أن الإنسان لم يدرك طبيعة العلاقة بعد بينه وبين الله ، وعليه أن يقض هذا التصور المهترئ ويبني مكانه آخر يليق بالحق تبارك وتعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق