“الحمد لله الذي جعل الهوى حَرَمًا تحجُّ إليه قلوب الأدبا، وكعبة تطوف بها ألباب الظرفا، وجعل الفِراق أمَرَّ كأسٍ تُذاق، وجعل التلاق عذبَ الجنى طيّبَ المذاق، تجلى اسمه الجميل سبحانه فألهى الألباب، فلما غرقت في بحر حبّه أغلق دونها الباب، وأمر أجناد الهوى، أن يضربوها بسيوف النوى، فلما طاشت العقول وقيّدها الثقيل، ودعاها داعي الاشتياق، وحرّكتها دواعي الأشواق، رامت الخروج إليه عشقًا، فلم تستطع، فذابت في أماكنها الضيقة ومسالكها الوعرة وجدًا وشوقًا، واشتدّ أنينها، وطال حزنها وحنينها، ولم يبقَ إلا النَفَس الخافت، والإنسان الباهت، ورثى لها العدو والشامت، فأذابها الأرق، وأتلفها القلق، وأنضجتها لواعج الحُرَق، وفتك فيها الفراق بحسامه، وجرّعها مضاضة كأس مدامه، واستولى عليها سلطان البيْن، فمحق فيها الأثر والعين، ونزلت بفنائها عساكر الأسف، وجُرّدت عليها سيوف التلف، وأيقنت بالهلاك، وعاينت مصارع الهُلّاك، وما خافت ألم الموت، وإنما خافت حسرة الفوت، فنادت يا جميل يا مِحسان، يا من قال: }هل جزاء الإحسان إلا الإحسان{، يا من تيّمني بحبه، وهيّمني بين بعده وقربه، تجليتَ فأبليت، وعُشقتَ فأرّقت، وأعرضتَ فأمرضتَ، فيا ليتك مرّضت، وأفرطت فقنّطت، وأسّست فأسّست، وأيّست فأيأست، وقربت فدنوت، وبعدت فأبعدت، وأجلست فآنست، وأسمعت فأطعمت، وكلمت فأكلمت، وخاطبت فأتعبت، وملكت فهتكت، وأملكت فأهلكت، وأتْهمت ففرحت، وأنجدت فأترحت، ونوهت فولّهت، وزينت فأفتنت، وألّهت فتيّهت، وفوّهت فتوّهت، وغلطت فنشطت، وعززت فعجّزت، وأسلبت فأغفلت، وأمسكت فنسكت، ووسعت فجمعت، وضيقت ففرقت، وأحرمت فأحلت، وأحللت فحرمت، وإذا تحققتُ لم أعشق، وإذا عشقتُ لم أُهجَر، وإذا هُجِرتُ لم أُقبَر، وإذا قُبِرتُ لم أُنشَر، وإذا نُشرتُ لم أُحشَر، وإذا حُشِرتُ لم أُعتَب، وأذا عوتبتُ لم أُزجَر، وإذا زُجرتُ لم أُطرَد، وإذا طُرِدتُ لم تُسعَّر بي النار التي فيها على الحجب أن أنظر، فلما سمع ندائي، وتقلبي في أنواع بلائي، بادر الحجَّاب، إلى رفع الحجاب، وتجلى المراد، فَنعِمَت العين والفؤاد، جعلنا الله وإياكم ممّن عشق ولحق، وصبر فظفر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق