البصيرة والفراسة
معنى الفراسة:
يقال: هو فارسٌ ثابت الفَرَاسة (بفتح الفاء)، وفارس صائب الفِراسة (بكسر الفاء)، وفَرُسَ: صار ذا رأيٍ وعِلم بالأمور، وفراستي في فلان الصلاح[1]، ويقال: فَرَسَ الأمر فِراسة: أدرك باطنَه بالظنِّ الصائب، فهو فارس، وتفرَّس في الشيء: نظَر وتثبَّت، ويقال: تفرَّس فيه الخير: رأى فيه مخايل الخير، والفِراسة: المهارة في تعرُّف بواطنِ الأمور من ظواهرها، والفِراسة: الرأي المبنيُّ على التفرس[2].
أنواع الفراسة:
ذكر ابنُ القيم أنه حسَب قوة البصيرة وضعفِها تكونُ الفِراسة، وهي نوعان: فراسة عُلْوية شريفة (مختصة بأهل الإيمان)، وفراسة سُفْلية دنيئة، مشتركة بين المؤمن والكافر، "وهي فراسة أهلِ الرِّياضة والجوع والسَّهر والخَلوة، وتجريد البواطن من أنواعِ الشواغل؛ فهؤلاء لهم فِراسة كشفِ الصور، والإخبار ببعض المغيبات السُّفلية التي لا يتضمن كشفُها والإخبار بها كمالاً للنفس، ولا زكاة ولا إيمانًا ولا معرفة...، وأما فراسة الصادقين العارفين بالله وأمره، فإن همَّتَهم لَمَّا تعلَّقت بمحبةِ الله ومعرفته وعبوديته، ودعوة الخَلق إليه على بصيرة، كانت فراستُهم متصلةً بالله، متعلقة بنُور الوحيِ مع نور الإيمان، فميَّزَتْ بين ما يُحبه اللهُ وما يُبغضه من الأعيان والأقوال والأعمال، وميَّزت بين الخبيث والطيب، والمُحِق والمُبطِل، والصادق والكاذب، وعرفت مقاديرَ استعداد السالكين إلى الله، فحملت كلَّ إنسان على قدرِ استعداده، عِلمًا وإرادةً وعملاً"[3].
فالفِراسة إنما هي ثمرةٌ للبصيرة الصادقة، ومرتبة عالية من مراتبها، لا ينالُها إلا أهلُ التوحيد الخالص، والقلبِ السليم، والسريرة النقية، والنفس الطاهرة، واللسان الصادق، ومع ذلك التقوى والورع، والمعرفة والفهم، كما سيتبين، ومن أمثلة صِدق الفِراسة ما حُكِي عن الشافعيِّ ومحمد بن الحسن - رحمهما الله تعالى - أنهما رأيا رجلاً فقال أحدهما: إنه نجَّار، وقال الآخر: إنه حدَّاد، فسألاه عن صَنعته، فقال: كنتُ حدادًا، وأنا الآن نجارٌ، وحُكِي أن رجلاً من أهل القرآن سأل بعضَ العلماء مسألة، فقال له: إني أشَمُّ مِن كلامك رائحةَ الكفر، فاتفق بعد ذلك هذا السائلُ أنه سافر إلى القُسطَنطينية فدخَل دين النصرانية، فرآه من كان يعرفه فسأله: هل القرآن باقٍ على حاله أم لا؟ فقال له: لا أذكرُ منه إلا آيةً واحدة: ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الحجر: 2]، ويقول أهلُ الفِراسة: إذا رأيتَ الرجل يخرج بالغداة ويقول لشيء: ما عند الله خيرٌ وأبقى، فاعلم أن جوارَه وليمة ولم يُدْعَ إليها.. وإذا قيل للمتزوج صبيحةَ البناء على أهله: كيف ما تقدمت فيه؟ فقال: الصلاحُ خيرٌ من كل شيء، فاعلم أن امرأتَه قبيحة...، وإذا رأيتَ إنسانًا يمشي ويلتفت، فاعلَمْ أنه يريدُ أن يُحدِثَ...
ويقالُ: عينُ المرء عنوانُ قلبه، وكانوا يقولون: عِظم الجبين يدلُّ على البَلَه، وعرضه يدل على الحسد، والعين المتوسطة في حجمها دليل على الفِطنة وحُسن الخُلق والمروءة، والأذن الكبيرة المنتصبة تدلُّ على حُمق وهذيان..[4]، وهذا النوع من الفراسة يسمى القِيافة، وهو الاستدلالُ بالأثر أو بصفات الإنسان الخَلقية، أو بصفات أعضائه على أصلِه، أو معدِنه، أو خصائصه؛ يقول الإمام الأبشيهي: "وأما القِيافة، فهي على ضربين: قِيافة البشر، وقيافة الأثَر، وأما قيافة البشر، فالاستدلال بصفاتِ أعضاء الإنسان، وتختص بقومٍ من العرب يقال لهم: بنو مدلج، ويُعرَض على أحدهم مولود في عشرين نفرًا فيُلحِقه بأحدهم..، وأما قيافة الأثر، فالاستدلال بالأقدامِ والحوافر والخِفاف، وقد اختص به قومٌ من العرب، أرضُهم ذاتُ رمل، إذا هرب منهم هاربٌ، أو دخل عليهم سارق، تتبعوا آثار قدمِه حتى يظفروا به، والعجيب أنهم يعرِفون قدَمَ الشاب من الشيخ، والمرأة من الرجل، والثيب من البِكر، والعربي من المستوطن"[5].
ومن هنا، فإن أعرفَ الناس بالناس وطبائعهم هم أصحابُ الفِراسة والقِيافة الذين يقِفون على أحوال الناس والزمان والبيئة، فيعرفون كيف يَدْعون الناس، ويؤثِّرون فيهم، ويعالِجون أمراض قلوبِهم، وأدواء نفوسهم، ويأخذون بأيديهم حتى يخرجَهم الله تعالى من الظلماتِ إلى النور، ومن الشك والحيرة إلى اليقين والهدى؛ ذلك لأن مراعاة أحوال الناس ومعرفةَ طبائعهم من أهمِّ وسائل الدعوة إلى الله تعالى، ومن أهمِّ صفات الداعي البصير.
// وهيبة سكر //
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق